القاضي مصطفى بن جعفر
رئيس دائرة بمحكمة التعقيب
الإجراءات توأم الحرية ، ولا مدخل لأيّ قضية إلاّ بآحترام إجراءات وقواعد محددّة سواء على مستوى التتبّع أو مباشرة الأبحاث أو الحكم .
وقد شرّعت الإجراءات الجزائية لغاية وضع ضوابط لأعمال كلّ المتدخلين في التقاضي الجزائي وتوفير مجموعة من الضمانات بقصد الحفاظ على مصالح الأفراد وحريتهم ومصلحة المجتمع ويترتب على مخالفتها جزاء وذلك سعيا للتوفيق بين مصلحة الدولة في العقاب ومصلحة الجاني في الدفاع عن نفسه ، لكنّ ترتيب الجزاء على الإخلالات الإجرائية لا يمكن أن يشمل كلّ الأعمال لما يمكن أن يترتّب عليه من إهدار للحقوق ومضيعة للوقت وتمسّك بالشكل دون الجوهر . والتصريح ببطلان الأعمال أو الأحكام هو الجزاء الأمثل لبعض الإخلالات الشكلية إذا كانت من شأنها أن تمسّ من حقّ يحميه القانون ، لكنّ هذا ليس أمرا مطلقا - ولو كان مطمح كلّ محام وكيفما يقال – تجنبا للخوض في متاهات الأصل،فالأنظمة الإجرائية تعكس مدى الحرص على إيلاء الشكل مكانته لذلك تعددت التوجهات التشريعية والفقه- قضائية حول الأخذ بالمبطلات فكان لكلّ توجّه مزاياه وسلبياته .
وإن حاول المرء سبر مختلف المواقف التي تأسست عليها نظرية البطلان لأمكن القول بأنّها تتأرجح بين البطلان القانوني والبطلان الجوهري في حين يرى بعض الفقهاء وجوب التفريق بين البطلان المطلق والبطلان النسبي في حين يرى فريق آخر وجوب التفريق بين المبطلات ذات الطبيعة العامة وأخرى ذات الطبيعة الخاصة على أنّه يمكن الإنتهاء إلى أربعة توجهات كبرى وهي :
- مذهب البطلان المطلق ويعتمد إبطال الإجراءات في كلّ الحالات التي تقع فيها مخالفة قاعدة إجرائية ممّا يتيح الفرصة للمتهم وللسان الدفاع إستغلال هذه الثغرات أو الإخلالات لضمان الإفلات من التتبعات والعقاب وترجيح الشكل على الجوهر ولا مجال في ظلّ هذا التوجه للتفريق بين القواعد الجوهرية أو غيرها إذ العبرة بمخالفة نصّ إجرائي فحسب مع التغاضي عن مصلحة المجتمع في إيقاع العقاب وتحقيق العدالة - مذهب البطلان القانوني ويعتمد التنصيص الوارد بالقانون ولا يمكن التوسّع في ذلك إذ " لا بطلان بدون نصّ" على أنّ هذا التوجّه يقيّد سلطة القاضي بتضييقه مجال الأخذ بالمبطلات ولو تعلّق الأمر بمخالفة إجراء جوهري ، فالمشرّع هو الذي يحدّد الإجراءات التي لا يجوز مخالفتها وما زاد على ذلك لا يعتدّ به مهما كانت إنعكاساته .
- البطلان الذاتي أو الجوهري ويعتمد تحديد القضاء لصور البطلان بناء على جسامة المخالفة للقواعد الإجرائية والتمييز بين ما هو " هام " وبين ما هو " أقلّ أهمية " ومن شأن هذا التوجه فسح المجال للإجتهاد وعدم وحدة الرأي في عديد المواضع ، إذ ما يمكن أن يعتبر باطلا لدى محكمة ليس بالضرورة كذلك لدى محكمة أخرى .
- التوجه الأخير وهو المؤسس على " الضرر" ولا يجوز الحديث عن إجراء باطل بدون ضرر لحق بالمتهم وتمسّك بطلب إبطاله ما لم يتبيّن أن مخالفة القاعدة الإجرائية من شأنها إحداث ضرر عام وفي هذه الحالة فإنّ المحكمة تتمسك به من تلقاء نفسها ، ولعلّ هذا التوجه هو الذي أخذ به واضعو مشروع مجلة المرافعات الجزائية إذ تضمّن الفصل 200 من المشروع أنّ" المبطلات إختيارية وللمحكمة قبولها أو ردّها بناء على ملابسات القضية أو مصلحة الأطراف" وتغليب هذا التوجه أو ذاك يمكن أن يعكس مدى الحرص على حماية الفرد أو المجتمع إذ أنّ المعادلة صعبة ، وإهدار مصلحة وتفضيل أخرى عليها لا يمكن أن يحقّق العدالة المرجوة لذلك تأرجحت بعض التشاريع بين النظرية والأخرى بحثا على المعادلة ومن ذلك ما عرفته البلاد الفرنسية .
فقد شهد التشريع الفرنسي وفقه القضاء في مرحلة أولى التفريق بين المبطلات النصية والمبطلات الجوهرية وذلك في ظلّ قانون 1958 كما تمّ التمييز بين المبطلات الماسة بالنظام العام وتلك الماسة من مصالح فردية ممّا يمكن أن يكون موضوع عدول من صاحب الحقّ ثمّ كان قانون 6 أوت 1975 الذي أسّس في جلّ الحالات لوجوب إثبات الضرر لكنّ محكمة التعقيب تمسّكت بوجوب التفريق بين الحالات الوجوبية و الماسة بالنظام العام والتي لا يشترط فيها إثبات الضرر وبين الحالات العادية التي يتوجّب على المتمسك بالبطلان إثبات ضرره من الإجراء الباطل، وبصدور قانون 4 جانفي 1993 حدّد المشرّع عشرين حالة للبطلان ودون حاجة لإثبات الضرر وفي غيرها يوكل للمحكمة حقّ تقدير البطلان لكنّ المشرّع سريعا ما تدخّل بموجب قانون 24 أوت 1993 ليسجّل الرجوع إلى قانون 1975 ويشترط لحاق الضرر بمن يتمسك ببطلان إجراء . وأمام تعدّد التوجهات التشريعية والمواقف الفقه قضائية وما أفرزه الفقه المقارن ، وجب التساؤل عن موقف فقه القضاء ببلادنا من المبطلات الإجرائية خاصة وأنّ تشريعنا مستقرّ منذ صدور أوّل مجلة إجراءات جزائية سنة 1921 إذ تضمّن الفصل 169 منها وفي صيغة فضفاضة إبطال " كلّ الأعمال والأحكام المنافية للنصوص المتعلقة بالنظام العام أو للقواعد الإجرائية الأساسية أو لمصلحة المتهم الشرعية ، والحكم الصادر بالإبطال يحدّد مرماه ". وقد كتب جان دوبلا في تعليقه على هذه الأحكام أنه " خلافا للقانون الفرنسي فإن التشريع التونسي لم ينصّ آخر كلّ نصّ على البطلان في صورة مخالفة أحكامه لكنّه جمع كلّ حالات البطلان بنصّ واحد وهو الفصل 169 أو بصورة أوضح فقد حدّد الصور التي يكون فيها التصريح بالبطلان إلزاميا ....لكنّ التشريع التونسي ولئن أخذ بالمبطلات الجوهرية وبعض المبطلات النصية إلاّ أنّه كان أقلّ تمسّكا بالشكل من التشريع الفرنسي " كما أوضح قيرو في تعليقه على نفس المجلة أنّه " على خلاف المجلة الفرنسية ، فإنّ المجلة التونسية تركت المجال مفتوحا للقاضي قصد تقدير أيّ إجراء يكون باطلا بشرط أن يكون مخالفا لروح النصّ ولأحد الشروط الثلاثة الواردة بالفصل 169 في حين وأنّ المشرّع الفرنسي حرص على تحديد الحالات الواجب التصريح فيها بالبطلان ". هذا ، وما دامت مجلة الإجراءات الجزائية الحالية قد إحتفظت بنفس الأحكام السابقة المكرسة لنظرية البطلان الجوهري والتي يضطلع فيها القضاء بدور هام في تحديد الأعمال والأحكام التي تنضوي تحت شرط من الشروط الواردة بالفصل 199 فإنه يتّجه تناول الموضوع إعتمادا على ما إعتبره فقه قضاء محكمة التعقيب من صور البطلان الوجوبي ( الجزء الأول) وصولا إلى البطلان النسبي وتطهير الإجراء( الجزء الثاني).
الجزء الأوّل : صور البطلان الوجوبي
لم ينصّ المشرّع صراحة على البطلان إلاّ في نطاق الفصل 119 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي يوجب على دائرة الإتهام عند تقرير الإحالة على الدائرة الجنائية تضمين قرارها عرضا مفصلا للوقائع موضوع التتبّع مع بيان وصفها القانوني وإلاّ كان قرارها باطلا ، وبآستثناء هذا النصّ فإنّ المشرّع إختار العقوبة التأديبية في صورة عدم مراعاة الصيغ القانونية في تحرير البطاقات القضائية مع إستبعاد بطلانها كما ضمّن من جهة أخرى الفصل 199 من نفس المجلة إبطال " كل الأعمال والأحكام المنافية للنصوص المتعلقة بالنظام العام أو للقواعد الإجرائية الأساسية أو لمصلحة المتهم الشرعية . والحكم الذي يصدر بالبطلان يحدّد نطاق مرماه" وآنطلاقا من هذا فإنّ المشرّع التونسي لم يعتمد البطلان القانوني بل أخذ بمذهب البطلان الجوهري القائم على مخالفة قواعد النظام العام أو الإجراءات الأساسية أو مصلحة المتهم الشرعية . وتقرير البطلان من عدمه موكول لتقدير القاضي وأهمية القاعدة الواجب حمايتها ، فالنصوص يمكن أن تكون آمرة ولا حياد عنها كما يمكن أن تكون توجيهية أي دالة على ما يمكن توخيه وتبقى للقضاء سلطة تقدير هذا الإجراء أو ذاك و القول بأنه هام أو أقلّ أهمية ونظرا لما للإجراءات من إنعكاس على سير القضاء وتحقيق العدالة فإنه يتحتّم الإحتكام لجملة المبادئ العامة في المادة الجزائية وللدستور لغاية إستخلاص ما يجب أن يكون حاضرا بذهن القاضي قبل التصريح بالحكم ومن ذلك قرينة البراءة الواقع تكريسها دستوريا أو مبدأ شخصية العقوبة أو حرمة المسكن والمعطيات الشخصية أو تنظيم كيفية حرمان المتهم من حريته على أنّ" الصعوبة تبقى قائمة في تحديد معنى الإجراءات الأساسية والنظام العام وحق الدفاع" فهل ساهم فقه قضاء محكمة التعقيب في توضيح المقصود بذلك ؟
المبحث الأول: المفهوم المتغير للنظام العام
لم يتّحد فقهاء القانون حول مفهوم النظام العام ، فمنهم من يحصر مفهومها في التنظيم القضائي وقواعد الإختصاص فحسب ومنهم من يذهب إلى إعتبارها من النظام العام جملة القواعد المنصوص عليها حماية للصالح العام وليس لحماية مصالح فردية والتي لا تخضع لإرادة الأطراف ومن بينها تنظيم المحاكم وسلامة سير العدالة على أنّه يمكن القول بأنّ قواعد النظام العام هي جملة القواعد العامة الواجب إحترامها حفاظا على المبادئ السامية التي تقوم عليها العدالة الجزائية سواء تعلقت بالتنظيم القضائي أو بالمبادئ التي تسوس المحاكمة أو التتبع مثل ضمان حياد القضاء بعدم مشاركة قاض سبق له إبداء الرأي في طور من أطوار التقاضيأو تعهد قاضي التحقيق بدون رجعة مما لا يجوز معه سحبها منه بدون موجب أو عدم جواز محاكمة نفس الشخص مرتين من أجل نفس الفعلة . هذا ويمكن الرجوع إلى فقه قضاء محكمة التعقيب لمحاولة إستخلاص ما يمكن إعتباره منافيا لقواعد النظام العام خاصة وأنّ الفصل 269 من مجلة الإجراءات الجزائية يلزمها بإثارة المطاعن المتعلقة بالنظام العام من تلقاء نفسها ، وبتصفّح مجموع القرارات التعقيبية سواء منها المنشورة أو غيرها يتّضح أنّ بعضها يتضمّن إثارة المحكمة للمطاعن من تلقاء نفسها جمعا بين قواعد النظام العام والإجراءات الأساسية أو بينها وبين مصلحة المتهم الشرعية و إعطاء بعد جديد لهذا أو لذاك ، وهو تمشي يميّز مرحلة ما بعد سنوات 1980 ، في حين كانت القرارات الأولى الراجعة إلى سنوات 1960وما بعدها أكثر وضوحا سواء عند إعمالها أحكام الفصل 169 من قانون المرافعات الجنائي أو الفصل 169 من مجلة الإجراءات الجزائية الحالية . وعلى ضوء ما تجمّع من قرارات ومبادئ أقرتها محكمة التعقيب يمكن توضيح المقصود بقواعد النظام العام وما يخرج عن نطاقه مع محاولة لترتيبها زمنيا
الفقرة الأولى: مبدأ الشرعية
تضمّن الفصل الأوّل من المجلة الجزائية أنه "لا يعاقب أحد إلاّ بمقتضى نصّ من قانون سابق الوضع" ويؤخذ من هذا الفصل عدم رجعية القانون الجزائي من ناحية ووجوب تطبيق النصّ الأرفق عند الإقتضاء وهو نفس المبدأ الواقع تكريسه دستوريا في مرحلة لاحقة وأكّدت محكمة التعقيب ذلك في عديد القرارات وتناولت جميع الجوانب المتصلة بتطبيق القانون في الزمان ومن ذلك عدم رجعية القانون الجديد إذ" ليس للقوانين الزجرية أثر رجعي وعلى هذا الأساس يكون قابلا للنقض بدون إحالة الحكم الذي قضى بالعقاب من أجل مخالفة القانون الصادر في 20 فيفري 1964 المتعلق بإبرام عقود الزواج والحال أنّ الزواج الذي أوجب التتبعات كان أبرم خلال عام 1961 قبل صدور القانون المشار إليه " كما أكّدت محكمة القانون على أنّ النصّ الأرفق واجب التطبيق في عديد القرارات بآعتبار وأن تطبيق القانون تطبيقا سليما يهم النظام العام وذلك بمناسبة صدور القانون عدد37 لسنة2007 المؤرخ في 4 جوان 2007 الذي عدّل أحكام المجلة التجارية ونزل بالخطية في مادة الشيك بدون رصيد إلى أربعين بالمائة من قيمة الشيك أو فارق الرصيد السلبي دون أن تقل على عشرين بالمائة وعلى المحكمة التمسك به من تلقاء نفسها لمساس ذلك بالنظام العام فالأحكام العامة في تطبيق القوانين الجزائية تهم النظام العام وخرقها موجب للنقض" كما " لا يجوز التوسع في القوانين الزجرية بما يعكّر حالة المتهم " مع وجوب عدم إعتماد القياس إذ " على القاضي الجزائي أن لا يخرج عن حدود النص وعما تقتضيه عباراته و لا يمكنه في المادة الجزائية أن يقيس الوقائع ببعضها على بعض متى كانت لكل واقعة نص قانوني يمكن أن يستوعبها بالتطبيق دون خرق للقانون " كما أن شخصية العقوبة تهم النظام العام ولا يجوز تتبع الموكّل ( بالكسر) من أجل فعل عمدي صادر عن الوكيل لمخالفة ذلك لمبدإ عام من مبادئ القانون الجزائي والواقع الإرتقاء به إلى مستوى المبدأ الدستوري فالعقوبة شخصية ولا يمكن تتبع ومحاكمة الشخص إلا من أجل فعله الشخصي
الفقرة الثانية: حسن تطبيق القانون
تعتبر محكمة التعقيب الهيئة القضائية المخولة قانونا بالسهر على حسن تطبيقه وأحكام الفصل 258 من مجلة الإجراءات الجزائية واضحة إذ تضمنت إمكانية الطعن بالتعقيب بناء على عدم الإختصاص أو الإفراط في السلطة أو خرق القانون أو الخطإ في تطبيقه كما أكّدت محكمة التعقيب نفسها هذا في عديد القرارات ومن بينها القرار الصادر في 8 جانفي 1974:" مخالفة القانون وإساءة تطبيقه يهم النظام العام وللمحكمة ولو في صورة عدم تقديم المطاعن وما يستخلصه القاضي الجزائي من الوقائع لا يكون صحيحا قانونا إلاّ إذا كان متماشيا ومنسجما مع ما أثبته البحث أمّا إذا ما تطرقه تحريف أو تغيير للوقائع فإنه يكون إستنتاجا باطلا لا يترتب عليه أي عمل قانوني " ويتّضح أنّ محكمة التعقيب قد خاضت في الوقائع وكيّفتها من الناحية القانونية رغم عدم تقديم الطاعن لمستندات طعنه وهو نفس التوجه الذي توخته محكمة القانون في القرار الصادر في 9 فيفري 1999 والذي جاء به أنّه " لمحكمة التعقيب حتى في صورة عدم تقديم الطاعن مستندات طعنه حقّ التثبت في تطبيق القانون تطبيقا سليما كما لها حقّ إثارة الإخلالات التي لها مساس بالنظام العام كما أن القضاء من أجل جريمة غير متوفرة الأركان يجعل القرار فاقدا للسند القانوني ومستهدفا للنقض " إذ أنّ "إساءة تطبيق القانون أمر يمس بالنظام العام … " وما دامت المحاكم ملزمة بتطبيق القانون تطبيقا سليما تحت رقابة محكمة التعقيب وخشية بطلان الحكم إذ أنّ " الخطأ في تطبيق القانون من الإخلالات الماسة بالنظام العام والمفضية حتما إلى النقض " فإنها ملزمة بالتنصيص على النصّ القانوني و" يكون باطلا وقابلا للنقض الحكم الجزائي الذي لم يتعرض للنص القانوني الذي إستند إليه للقضاء بالعقوبة ولا لتلاوته بالجلسة وهذا البطلان يهم النظام العام ولمحكمة التعقيب أن تقرر إثارته من تلقاء نفسها " لكنّ محكمة التعقيب أكّدت منذ سنة 1962أنّ " الغلط في ذكر النص القانوني أو الخطأ في وصف الفعل الواقع من أجله التتبع لا يتسبب عنهما البطلان إذا كان القانون الذي كان من الواجب تطبيقه يقتضي نفس العقاب الذي قضى به الحكم المخدوش فيه " وكرست بذلك مبدأ العقوبة المبررة رغم عدم وروده بمجلة المرافعات الجنائية لسنة 1921 ولم يتبناه المشرع إلاّ بالفصل 271 من مجلة الإجراءات الجزائية الحالية ممّا يبرز دور فقه القضاء في تكريس بعض المبادئ تشريعيا . الفقرة الثالثة : الدعوى العمومية
ما إتّصل بالدعوى العمومية يهمّ النظام العام إذ هي حقّ للمجتمع يثيرها ويمارسها طبق قواعد محددة وذلك بواسطة ممثليه سواء كان جهاز النيابة العمومية أو بعض الموظفين الذين أناطها القانون بعهدتهم وحق الإثارة أو الممارسة مضبوط بموجب القانون ، فلا يمكن في الحالات الخاصة أن تثير النيابة العمومية الدعوى بمفردها بمقولة وأنها تمثل الهيئة الإجتماعية وتكون التتبعات باطلة كما لا يجوز تتبع المظنون فيه بعد إنقضاء الدعوى العمومية وعلى المحكمة التمسك بذلك من تلقاء نفسها " طالما وأنّ إنقراض الدعوى العمومية يهم النظام العام " ويتّضح من جهة أخرى أن محكمة التعقيب قد أكّدت على عدم إمكانية تتبع الشخص من أجل نفس الفعلة مرتين معتمدة في ذلك أحكام الفصل الرابع من مجلة الإجراءات الجزائية بشأن إنقضاء الدعوى العمومية لإتصال القضاء إذ ورد بالقرار عدد 6601 الصادر بتاريخ 4 ماي 1970 أنه " من القواعد الثابتة أن المجرم لا يعاقب مرتين من أجل جريمة واحدة إرتكبت في تاريخ واحد وفي ظرف واحد لإتصال القضاء " أو كذلك عند صدور حكم جناحي " لم يقع إستئنافه على بعض المتهمين وتسلط الإستئناف على البعض الآخر وبتعكر حالة المتضرر بما صيّر الإعتداء جناية ، تخلت المحكمة عن القضية لصبغتها الجنائية لكن الحكم الجناحي الصادر ضد من لم يقع الإستئناف في حقه أصبح حائلا دون التتبع من أجل تلك الجناية عملا بقاعدة إتصال القضاء إذ أنه لا يجوز معاقبة الشخص من أجل الفعلة مرتين" وآنطلاقا من هذا المبدأ الذي أسس له فقه القضاء معتمدا قاعدة إتصال القضاء تدخّل المشرع بموجب القانون عدد 114 لسنة 1993 بإضافة الفصل 132 مكرر لأحكام مجلة الإجراءات الجزائية المتضمن عدم جواز تتبع من حكم كذلك ببراءته لأجل نفس الأفعال ولو تحت وصف جديد وتعددت القرارات المعتمدة بطلان الحكم الثاني الصادر في نفس الأفعال وفي مواجهة نفس المتهم كما ذهبت محكمة التعقيب إلى تقرير عدم جواز التتبع من أجل نفس الفعلة وفي قضيتين مستقلتين وتحت وصفين مختلفين وبالأخصّ من أجل التحيّل المؤسس على شيك بدون رصيد في إحداها ومن أجل إصدار شيك بدون رصيد في القضية الأخرى وكذلك الشأن بالنسبة لترويج المخدرات وعدم إمكانية تتبع المتهم أكثر من مرة وكلما ألقي القبض على مستهلك آخر يدعي مشاركته ذات الشخص في الإستهلاك أو التتبع ثانية وتحت وصف جديد الفقرة الرابعة: تنظيم المحاكم
" تشكيل المحاكم له إرتباط بالنظام العام وعلى هذا الأساس يكون قابلا للنقض الحكم الذي صدر من محكمة جنائية برئاسة قاض لم تكن له رتبة رئيس دائرة بمحاكم الإستئناف ومن قاضيين لم تكن لهما رتبة مستشار بمحكمة الإستئناف وذلك وفقا للقانون الصادر في 12/9/1964 " لكن محكمة التعقيب أكدت ضمن حيثياتها كذلك وصلب نفس القرار بأنّ تشكيل المحاكم من النظام العام لتعلقه بالإجراءات الأساسية فيمكن أن يتعلق الأمر بعدم تخويل رتبة القاضي النظر في القضايا الجنائية مثلما هو الحال في القرار المشار إليه أو لعدم تضمين الحكم أسماء القضاة الذين أصدروه كما يمكن أن يشمل أيّا من أعضاء المحكمة " فعدم ذكر إسم ممثل النيابة العامة وكاتب الجلسة بلائحة الحكم يعدّ خرقا لأحكام الفصل 168 م إج مما يعرض الحكم للنقض لمساسه بالنظام العام" وأكدت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة أنّ" حضور كاتب المحكمة جلسة الحكم إجراء جوهري وضمانة أساسية لكل الأطراف إذ أوكل إليه المشرع تحرير محضر فيما يدور بالجلسة من مرافعات والإشهاد على المحكمة وعلى مقرراتها بنفس المحضر وتأسيسا على ذلك تكون محكمة القرار المطعون فيه قد خرقت أحكام الفصل 168 من مجلة الإجراءات الجزائية عندما لم تذكر بقرارها إسم كاتب المحكمة الذي حضر بالجلسة التي أصدرت فيها القرار المطعون فيه " ويتضح من جملة هذا أنّ تركيبة المحكمة ووجوب التنصيص على ذلك بالحكم ذو طبيعة مزدوجة ، فهو يهم الإجراءات الأساسية والنظام العام معا ، ومخالفة الفقرة الأولى من الفصل 168 من مجلة الإجراءات الجزائية يترتب عليها بطلان الحكم لكنّ هذا المفهوم المزدوج لأحكام القانون يمكن أن ينسحب كذلك على حقوق المتهم الشرعية كيفما سيقع التطرق إليه لاحقا .
الفقرة الخامسة: حياد القاضي ضمانة للمحاكمة العادلة
يقصد بهذا المبدأ عدم جواز النظر في القضية مرتين سواء كان في المرحلة الإستقرائية أو في الطور الحكمي ، ولئن لم تتضمن مجلة الإجراءات الجزائية إلا ثلاثة فصول في هذا الشأن ويتعلق أوّلها بمنع مشاركة حاكم التحقيق في الحكم في القضايا التي باشر فيها البحث وثانيها بعدم جواز مشاركة أيّ قاض سبق له النظر في القضية في أي طور من التقاضي أو أبدى رأيه فيها بوصفه ممثلا للنيابة العمومية في النظر في مطلب التعقيب وثالثها تحجير إعادة النظر في القضية عند نقض الحكم مع الإحالة فإنّ محكمة التعقيب أكدت أن بطلان الحكم مطلق وله إرتباط بالنظام العام إذا شارك قاضي التحقيق في الحكم في القضية التي باشر البحث فيها وكذلك إذا شارك في القضية من باشر الحكم فيها لدى الدرجة الأولى لكنّ قرارا وحيدا صدر في 9 جانفي 1995 وضّح هذا المبدأ العام إذ إعتبر أنّ قاضي التحقيق ملزم بموجب القانون بعدم المشاركة في الحكم في القضية التي باشر البحث فيها أمّا مشاركته في قرار دائرة الإتهام فهو جائز قانونا بآعتبار وأنّ هذه الدائرة ليست محكمة قضاء ولا موجب للتصريح ببطلان القرار ويبدو أنّ هذا القرار قد تمسّك بحرفية النصّ وعدم تكوين حاكم التحقيق لرأي في القضية إذ أنّه تولى نيابة زميله و باشر في مغيبه بعض الأعمال ولم يتولّ تحرير قرار ختم البحث ثمّ وقع تعيينه مستشارا بدائرة الإتهام فكان من بين أعضاء الهيئة التي قررت إحالة القضية على الدائرة الجنائية لكن محكمة الموضوع تمسكت بمشاركة حاكم التحقيق في القرار وصرحت ببطلان إجراءات التتبع عملا بالفصلين 50 و199 من مجلة الإجراءات الجزائية فكان هذا القرار واضحا سواء بشأن الجهة المخولة للتصريح ببطلان قرار دائرة الإتهام أو بشأن مشاركة حاكم التحقيق في الحكم ، فالعبرة بسبق تكوين رأي في القضية لما يمكن أن يترتب عليه من تمسك به من جديد وفقدان القضاء لمصداقيته وكذلك لحرمان المتهم من حقّه – واقعا - في التقاضي على درجتين . وفي هذا الإتجاه كانت محكمة التعقيب أكدت على تحجير مباشرة القضية أكثر من مرة من طرف نفس القاضي سواء كممثل للنيابة العمومية أو كمستشار بدائرة الإتهام أو كقاضي إبتدائي ، ولهذه الأسباب وجب ذكر أسماء أعضاء هيئة المحكمة للتأكد من عدم سبق الحكم في القضية .
المبحث الثاني : قواعد الإجراءات الأساسية توأم الحرية
لئن كانت أحكام مجلة الإجراءات الجزائية آمرة في البعض منها وتوجيهية في البعض الآخر فإنه لا يجب حصر القواعد الإجرائية الأساسية في نطاقها الضيق بل وجب التثبت من بعض القوانين الأخرى التي تضمنت جملة من الإجراءات الأولية التي بمخالفتها لا يتسنى للهيئة الإجتماعية طلب تسليط العقاب ومن ذلك قضايا الشيك بدون رصيد التي يكثر فيها " التصريح ببطلان الإجراءات "سواء عن صواب أو عن خطأ.
و ضمانا لحسن سير المرفق القضائي ، يتضح أن المشرع أحاط مرحلة المحاكمة وما يليها بجملة من الإجراءات يترتب على مخالفتها إمكانية التصريح بالبطلان إذا ما تبيّن أنها ماسة بالقواعد العامة التي تقوم عليها المحاكمة العادلة كما يمكن أن تكون هذه القواعد قيدا كذلك للمتهم .
الفقرة الأولى: إجراءات المحاكمة
لئن تعددت القرارات المتعلقة بآستدعاء المتهم للجلسة وآختلفت في إعتبار هذا الإجراء يهم النظام العام وفي أخرى إجراء جوهريا وفي مواضع أخرى ماسا بمصلحة المتهم الشرعية فإنّ قرارات أخرى تعطي الإستدعاء طبيعة مشتركة فهو من الإجراءات الأساسية التي تهم النظام العام وتهضم حقوق الدفاع أو مصلحة المتهم الشرعية وما يلي الإستدعاء هو وجوب إستنطاق المتهم وتمكينه من فرصة إبعاد التهمة عن نفسه وإلا عدّ الحكم باطلا لخرقه القانون كالنظر في كل جريمة "تضمنها نص الإحالة والرد عليها سلبا أو إيجابا "وتعليل المحكمة حكمها بما تمت مناقشته أمامها وإلا كان فاقدا للتعليل وتثيره محكمة التعقيب من تلقاء نفسها لمساس الأمر بالنظام العام هذا وفيما يتعلق بتعريف المتهم بالتهم المنسوبة إليه وآستنطاقه ، وينسحب هذا كذلك على الطور الإستقرائي ، فقد كان قلم التحقيق متعهدا بالبحث في قضية قتل على وجه الخطأ على إثر وفاة فتاة بإحدى المستشفيات وبعد سماع الأطباء الذين باشروا العلاج كشهود في القضية قرر الحفظ لعدم وجود جريمة فطعن وكيل الجمهورية في ذلك القرار وبتعهد دائرة الإتهام قررت إحالة الأطباء على المجلس الجناحي لمقاضاتهم من أجل القتل على وجه الخطأ دون أي إجراء لكن محكمة التعقيب قررت النقض لبطلان هذا القرار بناء على وجوب توجيه التهمة على المتهمين وتعريفهم بالنصوص القانونية وتلقي ردودهم إذ" لئن كان من حقّ دائرة الإتهام نقض قرار قاضي التحقيق وتوجيه التهمة على من شملتهم الأبحاث فإن من واجبها تعريف المتهمين بالتهم المنسوبة إليهم وإعمال مبدإ المواجهة وآستنطاقهم سواء بواسطة أحد أعضائها أو بواسطة قاضي التحقيق ولا يمكن الإقتصار على تناول تصريحات شخص وقع سماعه كشاهد وإدانته لاحقا بتهمة لم يقع سماعه من أجلها أو تعريفه بها وتلقي دفوعاته بشأنها" وقد وقع إعتبار الأحكام المنظمة لسير الجلسة من النظام العام في عديد القرارات في حين ذهبت قرارات أخرى إلى إعتبارها من الإجراءات الأساسية سواء تعلق الأمر بآستدعاء المتهم وآستنطاقه وتلقي دفوعاته أو إعتماد الحجج الواقع مناقشتها بالجلسة دون سواها كوجوب إحترام مبدإ العلنية ما لم ينصّ القانون على خلافها كيفما نصت على ذلك أحكام مجلة حماية الطفل كآشتراط التنصيص على الأغلبية القانونية في الأحكام الصادرة بالإعدام وتضمين الحكم مستندات متناسقة ومؤدية للنتيجة التي إنتهى إليها الحكم دون تجاهل إمضاء هذا الحكم من كافة القضاة الذين حضروا المرافعة
الفقرة الثانية : إحترام الآجال القانونية في الطعن
أكّدت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة منذ سنة 1962 أنّه " من المبادئ القانونية الثابتة أنّ أصول المرافعات والإجراءات لا تؤخذ بطريق التأويل وأنّ آجال الطعون بالخصوص وبدايتها ونهايتها مقيّدة ومضبوطة بنصوص قانونية يجب تطبيقها بحروفها والوقوف عند حدّها وهي تهم النظام العام " وكانت لمحكمة التعقيب في مرحلة أخرى فرصة التأكيد على ذلك إذ ذهبت إحدى الدوائر الجناحية الإستئنافية إلى إعتبار الطعن مرفوضا إن لم يتمّ في غضون العشرة أيام وأدمجت تاريخ صدور الحكم ضمن الأجل وبوقوع الطعن بالتعقيب تمّ نقض جملة الأحكام بناء على مخالفة المحكمة لآجال الطعن المحددة قانونا والتي لا تكون بدايتها إلاّ من اليوم الموالي لصدورها تطبيقا للمبدأ العام الناص على أن الآجال لا يدخل فيها اليوم المعتبر بداية لها وما دامت آجال الطعن من النظام العام فإنّ محكمة الموضوع ملزمة بالتثبت "في وصف الحكم وآجال الإستئناف إذ لا يقبل هذا الطعن إن لم يقع في أجل عشرة أيام من تاريخ الحكم الحضوري " كما أن تفطّن "النيابة العمومية لدى محكمة التعقيب لخطأ قانوني في حكم لم يسبق تعقيبه كان عليها أن تقوم بتعقيبه لإصلاح الخطأ بالقانون الواقع بالحكم المطعون فيه من ذلك أن الإستئناف المرفوع بعد الأجل القانوني يشكل سببا لطعن وكالة الدولة العامة لصالح القانون ..." وتنسحب آجال إنقراض الدعوى العمومية على الأحكام الغيابية التي لم يقع الإعلام بها شخصيا في غضون أجل السقوط إذ بوقوع الإعتراض عليها وقبول الطعن وجب الرجوع إلى آجال الدعوى العمومية وذاك ما أكدته محكمة التعقيب في عديد القرارات مع التأكيد على وجوب إثارة المحكمة ذلك من تلقاء نفسها ثمّ كان قرار الدوائر المجتمعة لمزيد التوضيح والتأكيد على وجوب الرجوع للدعوى العمومية وهذا التكامل بين الإجراءات الهامة أي الجوهرية وآحترام المبادئ العامة الواجب أن تسوس التقاضي الجزائي يجد صداه كذلك في التمسك بروح التشريع والغاية التي وضع من أجلها النص ولعل التوسع في مبدأ عدم الإضرار بالطاعن يقيم الدليل على ذلك .
الفقرة الثالثة: لا يضار الطاعن بطعنه
تضمّن الفصل 216 من مجلة الإجراءات الجزائية عدم إمكانية تعكير حالة المستأنف تطبيقا للمبدأ القائل بأنّ " الطاعن لا يضار بطعنه " ومبنى هذا المبدأ أنّ القضية التي صدر فيها حكم رضيت به الهيئة الإجتماعية ولم تمارس حقها في الطعن في حين لم يرض به المحكوم عليه وطعن فيه بالإستئناف يحول دون الترفيع في العقاب أو حذف تأجيل التنفيذ أو التخلي عن القضية لصبغتها الجنائية وتثيره محكمة التعقيب من تلقاء نفسها عند الإقتضاء كيفما ورد بالقرار الصادر في 24 أكتوبر 1973" ليس لمحكمة الإستئناف أن ترفع في العقاب المحكوم به على المحكوم عليه إذا كان الإستئناف مرفوعا من المتهم دون النيابة حتى لا تعكر حالة المستأنف تطبيقا للفصل 216 م إج ومحكمة التعقيب تثير ذلك من تلقاء نفسها لخرق المحكمة قاعدة إجرائية أساسية لها تعلق بالنظام العام كما أنها أضرت من ناحية أخرى بمصلحة المتهم الشرعية إذ لا يضار الطاعن بطعنه " هذا ، ولئن ذهب فقهاء القانون بفرنسا إلى القول بأنّ قبول الإعتراض شكلا تنحلّ به القضية ويقع إرجاعها لما قبل الحكم مما يخوّل لمحكمة الموضوع إصدار حكم أشدّ على المعترض فإنّ فقه القضاء التونسي ذهب إلى خلاف ذلك قولا وأنّ المحكمة ما كانت لتتعهد بالنظر من جديد في القضية لولا طعن المتهم الذي يرمي من ورائه إلى الحصول على حكم بالبراءة أو التخفيف من العقوبة وما دام القانون قد خوّل له حقّ الإعتراض أو العدول عنه والرضاء بالحكم الصادر غيابيا في حقه فإنه لا يجوز تعكير حالته وسحبت محكمة التعقيب مبدأ عدم الإضرار بالطاعن بموجب طعنه على الإعتراض" وهو لا يمكن أن يكون إلا في مصلحة من قام به لا في مضرته " و " ليس للمحكمة تعكير حالة المعترض والإخلال بذلك يهم النظام العام ولمحكمة التعقيب إثارته من تلقاء نفسها " كما لا يجوز للمحكمة تعكير حالة المعترض الذي يتخلف على الحضور بالترفيع في العقاب إذ أن في ذلك خرق لمبدإ عدم إضرار الطاعن بطعنه و رجوعا إلى نصّ الفصل 199 من مجلة الإجراءات الجزائية وما تضمنه من تفريق بين أحكام النظام العام والقواعد الإجرائية الأساسية ومصلحة المتهم الشرعية وكذلك إلى القرارات التعقيبية المتعددة المتضمنة شبه حصر للأعمال والأحكام الموجبة للتصريح بالبطلان وجب التساؤل عن صحة مواقف بعض محاكم الموضوع بشأن أحكام قانون الشيك بدون رصيد والتي يتجه تناولها مختصرة لتعدد الأحكام الصادرة فيها ببطلان إجراءات التتبع بمقولة مخالفتها لقواعد الإجراءات الأساسية .
الفقرة الرابعة : بطلان إجراءات التتبع في جريمة الشيك بدون رصيد
تضمّن الفصل 410 ثالثا من المجلة التجارية أنه في صورة عدم توفر الرصيد أو نقصانه أو عدم قابلية التصرف فيه يجب على الصيرفي إثبات تاريخ العرض حينا على ظهر الشيك ودعوة الساحب في نفس اليوم بواسطة برقية أو أي طريقة أخرى تترك أثرا كتابيا إلى توفير الرصيد بحسابه أو جعله قابلا للتصرف فيه وذلك في أجل أقصاه ثلاثة أيام من تاريخ الإمتناع عن الدفع وفي صورة عدم الإستجابة لذلك يحرر المصرف وجوبا خلال يوم العمل المصرفي الموالي شهادة في عدم الدفع تتضمن نقلا حرفيا للشيك والتظهيرات وبيان تاريخ العرض وآنعدام الرصيد أو نقصانه أو عدم قابلية التصرف فيه ويوجه خلال الثلاثة أيام عمل مصرفية الموالية لليوم الرابع نسخة للمستفيد سواء مباشرة أو عن طريق المصرف العارض كما يسلم في نفس الأجل إعلاما لأحد عدول التنفيذ قصد تبليغه للساحب مع إنذاره بوجوب تسوية وضعيته في أجل الأربعة أيام عمل مصرفية وإلا جرى تتبعه وعلى العدل المنفذ تبليغ ذلك في ظرف أربعة أيام للساحب شخصيا أو تركه بالمقر المصرح به لدى البنك بدون أي إجراء آخر وإلا إستهدف للمؤاخذة على معنى الفصل 403 من المجلة التجارية. ويتّضح أنّ هذا النصّ قد حدّد الإجراءات الواجب إتباعها سواء من طرف البنك أو من طرف عدل التنفيذ سواء لغاية ضمان حقوق الساحب أو لإلزام الصيرفي ومن بعده عدل التنفيذ بوجوب عدم التواني تحت التهديد بالعقاب ، غير أنّ عمل عديد محاكم الموضوع – وكاد الإتفاق يحصل بينهم – التصريح ببطلان إجراءات التتبع كلّما وقع خلاص الأصل أحيانا إعتمادا على أسباب واهية وبتعليل يتجافى ومقتضيات القانون أحيانا مثل تولي الساحب خلاص الأصل وتحقق الغاية من القانون لكنّ أحكاما أخرى كانت أكثر وضوحا وجارتها محكمة التعقيب في ذلك مؤكدة بأنّ إحاطة المشرع التتبع بإجراءات أولية وآجال محددة يجعل الإخلال بها موجبا للبطلان كلما وقع المساس بإجراء أساسي ، فقد شرّعت لحماية الساحب ويمكن أن يترتب عن عدم إحترامها حرمانه من فرصة تسوية وضعيته وتجنب التتبعات العدلية ومن بين هذه الحالات: - عدم منح الساحب أجل ثلاثة أيام عمل مصرفية بموجب الإشعار الأولي إذ يترتب عليه إثقال كاهله بمصاريف إضافية ويكون الحكم مبنيا على سند صحيح عند تصريحه ببطلان إجراءات التتبع - توجيه الإشعار إلى عنوان غير العنوان المصرح به لدى البنك مثل ذكر المرناقية عوض مرناق وتبعا لذلك لحاق الضرر به والدخول في المرحلة الثانية من التتبعات - عدم إشعار الساحب رغم وجود فقدان أو نقص بالرصيد إلى جانب وجود إعتراض على الشيك بموجب السرقة أو الضياع - توجيه المصرف أوراق الملف للنيابة العمومية منقوصة أو بعد إنقضاء الدعوى العمومية ولو أنّ مثل هذه الحالة لم تكن مستوجبة للتصريح بالبطلان بل لإنقضاء الدعوى بمرور الزمن في حين لم تعتبر محكمة التعقيب موجبا للتصريح بالبطلان في حالات أخرى سواء لعدم وجود أي ضرر لحق بالساحب أو لعدم تمسك من وضع الإجراء من أجله بطلب البطلان أو لعدم وجود إخلال بإجراء جوهري يستوجب الحماية إذ أن بعض الإجراءات أو الآجال وضعت لغايات توجيهية ومن بين الحالات: - توجيه الإشعار للساحب في اليوم الموالي للعرض إذ أنّه لم يتضرر من ذلك بل تحصل على يوم إضافي زيادة على جعل المشرع هذا الأجل لإستحثاث الصيرفي على إتمام الإجراءات في أسرع الآجال - عدم إضافة نسخة من الإشعار لملف الإجراءات لا يوجب البطلان إذ أن ذلك ليس ورقة من أوراق الملف ولم يتضمن الفصل 410 ثالثا مكرر من المجلة التجارية وجوب إرفاقه بشهادة عدم الخلاص لكنه يمكن المطالبة به عند وجود منازعة. كما لا موجب للتصريح بالبطلان إذا لم يتمسك بذلك الساحب نفسه وتولى إجراءات الخلاص - إتصال عدل التنفيذ بالعنوان المصرح به لدى البنك وعدم العثور عليه وتمكين مساكنه أو أجيره منه إذ أن المشرّع قد نصّ على عدم القيام بأي إجراء آخر غير إيداع شهادة عدم الخلاص بالعنوان وهو ما يعني أنه غير ملزم بآتباع الإجراءات الواردة بمجلة المرافعات المدنية والتجارية ، أما تسليم الإنذار مع شهادة عدم الخلاص لمن وجده بالمحل فهو ضمانة إضافية على وقوع التبليغ بالعنوان الصحيح - عدم تضمن محضر عدل التنفيذ إسم المستفيد من الشيك لا يوجب البطلان إذ أنّ شهادة عدم الخلاص مرفقة للمحضر وقام الساحب بخلاص ذاك المستفيد في معين الشيك ولم يتمسك بعدم التوصل لمعرفته أو لإمكانية تسليم الشيك للحامل وتولي الساحب تأمين المبلغ لفائدته على أن اللافت للإنتباه في مثل هذه القضايا تمسك لسان الدفاع بطلب بطلان إجراءات التتبع لمجرد خلاص المستفيد دون بيان الموجب كما أن عديد محاكم الموضوع تصرح بالبطلان " لوجود إخلالات إجرائية" على مستوى محضر عدل التنفيذ دون إشارة لموطن الخلل أو لأهميته مما جعل محكمة التعقيب تؤكد على " أن محكمة الموضوع ملزمة ببيان أوجه البطلان حتى يتسنى لمحكمة القانون إجراء رقابتها وعدم تحديد الإخلال الإجرائي يجعل الحكم فاقدا للتعليل ومستوجبا للنقض" فالإجراءات الواردة بالمجلة التجارية وردت في مجملها توجيهية وكان بعضها فحسب إلزاميا وذلك في الصور التي رتّب المشرع عليها نتائج مثل تقليص آجال التسوية أو عدم تبليغ ملف الإجراءات للمعني وما زاد على ذلك لا يمكن أن يعتبر من الإجراءات الأساسية التي يترتب على مخالفتها البطلان ، وكان على محاكم الموضوع مزيد التثبت وعدم التسرع والبحث عن أسباب واهية قصد تجنب التتبعات ضد ساحبي الشيكات .
وفي النهاية ، يتضح أنّ محكمة التعقيب قد حدّدت بكثير من التوسع صور البطلان الوجوبي وجمعت بين قواعد النظام العام والإجراءات الأساسية لكنها ذهبت في حالات أخرى إلى إعتبار حقوق الدفاع وبعض القواعد الإجرائية غير موجبة للتصريح بالبطلان سواء بآعتبار حمايتها لحقوق شخصية أو بناء على أنها توجيهية ولا يترتب عليها ضرر.
الجزء الثاني : المبطلات الإختيارية
لئن أكدت محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة أنّ " الإجراءات الجزائية تقوم على الشرعية الإجرائية والتي تقتضي أن يوفر المشرع للمحكوم عليه الضمانات الكافية في مواجهة السلطة العامة خاصة منها ما تعلق بالإختصاص والطعن أمام أصناف المحاكم التي تتخذ القواعد المتعلقة بها شكل القوانين وجوبا تطبيقا للفصل 34 من الدستور " فإنه يجب الرجوع إلى روح التشريع للوقوف على مدى التقيد بتلك القواعد إذ يحدث أن يضع المشرّع أحكاما توجيهية لا يترتب على مخالفتها البطلان وإنما شرّعت لغاية حسن سير المرفق القضائي وتجنب طول نشر القضايا ومن ذلك أنّ الفصل 175 من مجلة الإجراءات الجزائية يتضمن وجوب عقد الجلسة الإعتراضية في أجل أقصاه شهر من تاريخ الإعتراض لكنّه لا يمكن أن يترتّب على ذلك بطلان الحكم وكذلك الشأن بالنسبة لوجوب تحرير نسخة أصلية للحكم في أجل عشرة أيام من تاريخ صدوره وتبعا لذلك وجب القول بأنّ أحكام مجلة الإجراءات الجزائية ليست كلّها آمرة ،إذ أنّ بعضها شرّع لغاية توجيهية و"إدارية" زيادة على أنّ المشرّع تجنّب مناقشة البطلان من عدمه في خصوص البطاقات القضائية إذ نصّ صراحة على أنّ عدم مراعاة الصيغ القانونية في تحريرها لا يترتب عنه بطلانها وقد يذهب القضاء إلى إعتبار إجراء معيّن باطلا لنيله من حقوق المتهم الشرعية أو يستبعده لإدراكه بأنه لم يلحق ضررا بالمتمسك به في الإبان ( المبحث الأول) كما يمكن أن يكون الإجراء باطلا من أساسه لكنّ الأعمال والقرارات اللاحقة قد طهّرت الإجراءات وجعلت ركب القضاء يواصل مسيره ( المبحث الثاني) .
المبحث الأوّل: الحقوق الخاصة
لا تثير محكمة التعقيب إلاّ المآخذ القانونية الصرفة المتعلقة بالنظام العام ، وقد سبق إستعراض عديد الحالات التي إعتبرتها كذلك سواء لطبيعتها المحضة أو لمساسها بقواعد إجرائية أساسية أضفت عليها ذاك الطابع المتميز ، على أنّ عديد النصوص الإجرائية لا تمسّ بالنظام العام بل بمصلحة المتهم وليست على درجة من الخطورة إزاءه مما يجعل التمسك بها لأوّل مرة أمام محكمة التعقيب مردودا ، فالقضية قد بلغت آخر مراحلها لكنّ لسان الدفاع يلتجئ إلى إثارتها في محاولة أخيرة بناء على سهوه على التمسك بها أمام قضاة الموضوع أو لإعتقاده بأنّ محكمة التعقيب يمكن أن تجاريه في إعتبارها من الإجراءات الأساسية التي لها مساس بمصلحة المتهم الشرعية .
ولا يخلو طعن بالتعقيب من التمسك بمصلحة المتهم الشرعية لكن محكمة القانون قد تجاري لسان الدفاع فيما كان جوهريا وتردّ عديد الطعون سواء لعدم حصول الضرر(الفقرة الأولى) أو لعدم مساس الإجراء بمصلحة المتهم الشرعية (الفقرة الثانية) أو لوقوع التمسك بذلك لأول مرة أمام محكمة التعقيب ( الفقرة الثالثة) وأخيرا لوقوع التمسك بمبطل لا يهم مصلحة من تمسك به (الفقرة الرابعة).
الفقرة الأولى : إشتراط الضرر
أكدت محكمة التعقيب ومنذ ما يربو على الخمسين سنة أنّ بعض الإجراءات تهم مصلحة المتهم فحسب ولا ينجرّ عن مخالفتها البطلان إلاّ إذا ترتب عنه ضرر لمن وضعت لمصلحته ومن ذلك أنّ الفصل 66 من مجلة الإجراءات الجزائية ومن قبله الفصل 80 من مجلة المرافعات الجنائية متّحدان في القول بأن حاكم التحقيق يعيّن مترجما إذا كان ذو الشبهة وحاكم التحقيق لا يتكلمان بلغة واحدة لكنه يحصل أن يقع إستنطاق ذي الشبهة أو سماع الشاهد دون اللجوء إلى إنتداب مترجم فيتمسك لسان الدفاع لاحقا بعدم إحترام هذه الموجبة القانونية لكنّ محكمة التعقيب أكدت أنّ " هذه الموجبة من الإجراءات الجزائية التي راعى فيها المشرع مصلحة المتهم فحسب يترتب عن مخالفتها بطلان نسبي لا يتمسك به إلاّ من جعل لمصلحته بشرط عدم المصادقة عليه ولو ضمنيا" كما وضحت محكمة التعقيب من جهة أخرى أنّ التمسك ببطلان شهادة شاهدين إيطاليين وقع تلقيها بدون حضور مترجم "لا يمكن أن يصدر إلا ممن لحقه ضرر من جراء عدم فهم المقصود من أقوالهما "خاصة إذا ما تبيّن وأن هذه التصريحات كانت مستقرة بعد إنتداب مترجم . وإن كان إنتداب المترجم ضروريا – أحيانا – لإستيعاب تصريحات الطرف الواقع سماعه فإنّ ذلك لا يمكن أن يترتب عليه البطلان إن كانت مخالفة هذه الموجبات قد تمت أمام الباحث الإبتدائي إذ أن التنصيص على تكليف من يتولى الترجمة وأدائه اليمين لا يخصّ إلا الهيئة القضائية أو الباحث المناب ولا يمكن أن ينسحب على الباحث الإبتدائي بإعتبار أعماله مجرد جمع إرشادات أولية تضمحل بتعهد القضاء وفي نفس السياق فإن عدم تعريب الوثائق المدلى بها لا يترتب عنه البطلان وكان على المتمسك بذلك إثارته أمام حاكم التحقيق ، كما لا يجوز للسان الدفاع التمسك لأول مرة لدى التعقيب ببطلان الإجراءات لتولي البنك إشعار منوبه بموجب برقية محررة باللغة الفرنسية وتمسكت محكمة التعقيب بنفس التوجه مستبعدة إبطال الإختبار الواقع إنجازه دون إستدعاء الخصوم لحضوره ما دام قد تبين للمحكمة عدم ترتب أي ضرر للمتمسك به وكذلك الشأن عند سهو الخبير عن الإستدعاء أو إغفال الطبيب المنتدب كخبير دعوة الخصوم لحضور أعماله هذا وبالرجوع إلى أحكام الفصل 64 من مجلة الإجراءات الجزائية ، يتضح أن المشرع أوجب تحليف الشهود قبل تلقي تصريحاتهم لكنّ هذا لا يشترط إلاّ أمام قاضي التحقيق أو من ينوبه أي الباحث المنابولا ينسحب على الأبحاث الأولية بآعتبارها مجرد جمع إرشادات أولية كما أنّ عدم إحترام هذه الموجبة لا يمكن التمسك بها أول مرة أمام محكمة التعقيب شأنها في ذلك شأن القدح في الشهود بالقرابة أو بالعداوة والتي يجب إثارتها أمام محكمة الموضوع التي تكون ملزمة بالرد على ذلك ولا يمكن التمسك بالقوادح لأول مرة لدى التعقيب كما يمكن أن يزول هذا الحق إذا لم يبد المعني أي قادح قبل تلقي الشهادة والتمسك ببطلان الإجراءات أو الأحكام ليس مطلقا ، فالتشريع التونسي على غرار بعض التشريعات الأخرى يولي الشكليات عناية لكنه لا يجعل منها أمرا حتميا إذا لم تكن الغاية منها حماية مصلحة ، فما هو الضرر الذي يمكن أن يحصل للمتهم إن وقع إغفال التنصيص على جزئية من عناصر التعريف به أو أخرى غير ذات أهمية ؟
الفقرة الثانية: عدم المساس بمصلحة المتهم الشرعية
لا يترتب البطلان إلاّ إذا تسربت للإجراءات أو للأعمال إخلالات من شأنها النيل من مصلحة المتهم الشرعية أمّا التمسك بما ليس له تأثير على مسار القضية وحسن سير القضاء أو النيل من المبادئ السامية التي تقوم عليها العدالة الجزائية فلا تأثير لها و لا يمكن أن تتسبب في إهدار مجهودات المتدخلين في التقاضي الجزائي .
وتصفح قرارات محكمة التعقيب يبرز هذا التوجه إذ يحدث أن يتمسك لسان الدفاع بخلو الحكم من التنصيص على مسقط رأس المتهم أو عدم التنصيص على سوابقه أو جنسيته رغم إمكانية التعرف على المعني وعدم إمكانية حدوث أي إلتباس بشأن هويته كما حدث وأن وقع التمسك بعدم تضمن حيثيات الحكم أسماء الشهود في حين وأنّ الرجوع إلى أوراق الملف أو تقديم القضية كاف للتعرف عليهم . وقد يحدث أن يتمسك لسان الدفاع كذلك بالخطأ في ذكر النص القانوني المعتمد لكنّ محكمة التعقيب أكدت أنّ هذا الخطأ لا يترتب عليه أي أثر ما دام العقاب المسلط على المتهم هو عين العقاب المستوجب للجريمة أو التزيّد على مستوى المستندات المعتمدة مع الخطأ في القانوني في حين وأنّ ذلك يمكن تجاوزه ولا يعيب الحكم ، أو ذكر سند خاطئ لا يترتب عن حذفه الإخلال بالحكم ، هذا ، وبحثا عن مبطل يمكن بموجبه نقض الحكم فقد يقع التمسك بمخالفة القانون لإضفاء وصف غير سليم عليه بأن وصف حضوريا مثلا في حين وأنه "معتبر حضوريا " أو غيابيا لكنّ هذا الخطأ في الوصف لا يترتب عليه أي أثر لعدم مساسه بالإجراءات الأساسية أو بمصلحة المتهم الشرعية ، فالأحكام تأخذ وصفها من القانون لا مما تذهب إليه المحكمة. ولئن كان موقف محكمة التعقيب واضحا – وخاصة في مراحله الأولى – فإنّ ما كلّ ما يتمسك به لسان الدفاع يستوجب الردّ إذ يمكن أن تكون بعض الدفوعات غير ذات أهمية ويكفي إيثار أهمها مما هو من الدفوعات الجوهرية ، وتعتبر من هذا القبيل تلك التي لها تأثير على وجه الفصل و" تجاهل المحكمة الردّ عليها سلبا أو إيجابا ..يعرّض الحكم للنقض " أمّا ما زاد على الدفوعات الجوهرية وكان بالأساس من قبيل التزيد من لسان الدفاع فيمكن أن يكون الردّ عليه ضمنيا ويعتبر ماسا بمصلحة المتهم الشرعية عدم إستجابة المحكمة " لطلب لسان الدفاع تأخير القضية لتعذر حضور المتهمة بسبب إقامتها بالمستشفى" وكذلك عدم إحضار المحكمة المتهم بالجلسة رغم ثبوت سبق إيداعه بالسجن في قضية أخرى أو عدم إستدعائه حتى يتسنى له تقديم وسائل دفاعه أو عدم الإستجابة لطلب محامي المتهم التأخير للإطلاع وتقديم وسائل دفاعه، لكنه يتّضح من جهة أخرى عدم إمكانية التمسك ببطلان الإجراءات إذا ما تبيّن وأنّ القضية قد بلغت مرحلة متقدمة لم يثر خلال أطوارها المتهم أيّ مبطل في حين أثارت المحكمة ذلك من تلقاء نفسها معتبرة وجود إخلالات إجرائية مست بمصلحته مثل تصريح المحكمة ببطلان إجراءات التبليغ في مادة الشيك بدون رصيد في حين وأن المتهم نفسه لم يتمسك بذلك ويستخلص من جملة القرارات التعقيبية أنّ مصلحة المتهم الشرعية قد تمّ " الإرتقاء بها " إلى صفّ الإجراءات الأساسية وأحيانا أخرى جعلها من قواعد النظام العام التي تثيرها محكمة التعقيب من تلقاء نفسها لكنّ بعض الإجراءات التي تهم المصلحة الفردية المحضة تبقى رهينة تمسك من وضعت لصالحه مع وجوب إتمام ذلك في مراحل متقدمة أي أمام قضاة الموضوع ولا تثيرها المحكمة من تلقاء نفسها.
الفقرة الثالثة: إثارة المبطلات الإختيارية
المقصود بهذا العنوان تحديد المرحلة الزمنية لإثارة المبطلات الإختيارية ، إذ ما دامت قد شرّعت لحماية مصلحة المتهم كان من واجبه التمسك بها في الإبان ولا يجوز له إثارتها لأول مرة أمام محكمة التعقيب إذ كلّ ما يتعلق بالمصلحة الفردية يخضع لإرادة ومشيئة المعني إن حصل له ضرر" وتمسك بها المتضرر من أول وهلة " وإثارة المبطلات الإختيارية يمكن التمسك بها أمام قضاة الموضوع سواء على مستوى التحقيق بمرحلتيه أو في الطور الحكمي غير أن المحكمة غير ملزمة بالرد على كلّ ما يثار من دفوعات ما لم تكن من الدفوعات الجوهرية التي لها تأثير على وجه الفصل في القضية والتي يمكن أن تكون سببا للنقض و" من فاتته أوجه الدفاع لدى محكمة الأصل وكانت لا تهم النظام العام فإنها لا تصلح أن تثار لأول مرة لدى التعقيب." هذا، وأوضح القرار التعقيبي الصادر في 8 ديسمبر 2007 الفرق بين المبطلات المؤسسة على قواعد النظام العام والأخرى المبنية على المصلحة الخاصة قولا أنه "ولئن كان الحضور الأول وإجراءات الإستنطاق الأول في مجمله يأتي ضمن القواعد التي لها علاقة بقواعد النظام العام ، وإن كانت في ظاهرها لها علاقة بمصلحة المتهم الشرعية في الدفاع وتنتهي الإجراءات بالبطلان إذا لم تحترم جملة الضوابط فإن مضمون الحضور الأول والإستنطاق الأول كما في صورة عدم ذكر النص القانوني المنطبق ، إعتمد فقط لمصلحة المتهم الشرعية في الدفاع وقد إستقر الرأي على أن حق الدفاع يعد من قبيل الإجراءات التي تظل مرتبطة بالمصلحة الخاصة التي لا يمكن أن تؤدي إلى شيء من البطلان إلا إذا ثبت الضرر ويكره إثارته أول مرة أمام محكمة التعقيب وذلك تفصيل لم يورده الفصل 199 من م إج وإنما هو فهم قضائي لمحتواه تردد في العديد من القرارات تأثرا ببعض المذاهب الفقهية .
وحيث إنه بتعهد دائرة الإتهام ما كان لها أن تثير تلقائيا نقاطا لها علاقة بالمصلحة الخاصة لتنتهي إلى بطلان الإجراءات عملا بأحكام الفصل 199 م إ ج "
ونظرا لما أسّس له هذا القرار وما إعتمده من تفرقة بين المصلحتين العامة و الخاصة كان لزاما التذكير بأطوار القضية الممكن أن يؤدي إلى خلاف ما ورد به إذ لم يتضمن القرار موضع البطلان الذي صرحت به دائرة الإتهام كما تضمن البعض من التزيد الذي لم يشمله الطعن، فقد تعهد قلم التحقيق بالبحث في جريمة محاولة القتل العمد والمشاركة على معنى الفصول 32 و59 و201 و202 من القانون الجزائي وختم الأبحاث بالتصريح بقيام ما يكفي من الحجج والقرائن على إدانة المتهمين من أجل محاولة قتل نفس بشرية عمدا على معنى الفصول 59 و201 و202 من ق ج وإحالتهما رفقة ملف القضية والمحجوز على دائرة الإتهام ....فطعن المظنون فيهما بالإستئناف في قرار الختم وآنتهت الدائرة إلى قبول مطلبي الإستئناف شكلا ورفضهما أصلا وتأييد القرار المطعون فيه وتوجيه تهمة محاولة القتل العمد على المتهمين على معنى الفصلين 59 و205 والحفظ فيما زاد فطعن الوكيل العام بالتعقيب ناعيا على القرار تحريف الوقائع وضعف التعليل وخرق القانون لإستبعاد الإضمار رغم توفر جملة من العناصر أهملها القرار المطعون فيه وأصدرت محكمة التعقيب قرارها المبين آنفا.
ورغما عما يثيره هذا القرار من نقاش فإنه يبقى هاما من الناحية النظرية لوقوع التفريق بين مصلحتين إلى جانب عدم إمكانية إثارة المطاعن الإختيارية لأول مرة أمام التعقيب ، فإنه يتجه التذكير بأن دائرة الإتهام قد " خولها المشرع صلاحيات تمكنها من إصلاح ما عسى أن يقع فيه المحقق الأول من أخطاء بما في ذلك حق مراجعة جميع ما باشره قاضي التحقيق من إجراءات ومن تصحيح أو تحوير لنص الإحالة ..والإستناد للنص القانوني الصحيح" ولعلّ ما كان أولى التذكير به أنّ عرض النصوص المنطبقة على الفعلة من طرف قاضي التحقيق تجعل دائرة الإتهام في حلّ من البحث على مبررات واهية من جهة كما يمكنها تدارك الأمر بالإصلاح والتنصيص على الفصول المنطبقة
الفقرة الرابعة: تسليط البطلان وحدوده
" الأحكام العدلية لا تسقط من تلقاء نفسها ولمجرد علّة فيها بل إنها تبقى قائمة الذات إلى أن يصدر حكم بإبطالها من محكمة عليا " فهي " محمولة على أنها مستوفاة لشكلها القانوني إلى أن يثبت العكس "وتبعا لذلك فإنّ الجهة المخولة للتصريح بالبطلان هي المحكمة الأعلى درجة ، وذاك ما يتّضح – مبدئيا –من خلال القرار الأوّل إذ من له حقّ الرقابة هو المؤهل قانونا للقول بأنّ هذا الإجراء أو ذاك باطل . ولعلّ ما يؤكد هذا الموقف ويجد له سندا بالقانون ، الدور الموكول لدائرة الإتهام والتي تنتصب للنظر في القضية سواء بوصفها محكمة تحقيق من درجة ثانية أو بوصفها محكمة إستئناف لقرارات قاضي التحقيق ، فهي تتعهد بالنظر في القضية وهي لازالت على بساط النشر لدى قلم التحقيق وذلك بصفة عرضية عندما يتعلق الأمر بمطلب إفراج وتنتصب كرقيبة على أعمال قاضي التحقيق كما يكون هذا الأخير ملزما –بموجب القانون- بتقرير الإحالة عليها عند ختم الأبحاث والإنتهاء إلى أنّ الأفعال تشكّل جناية وفي هذه الصورة تنتصب دائرة الإتهام للنظر في القضية بوصفها درجة تحقيق ثانية ويمكنها تأييد قرار الختم أو نقضه أو إعتبار القضية غير جاهزة فتأذن بإجراء أبحاث تكميلية كما يكون من حقها الإذن بإجراء تتبع جديد أو بالبحث " عن أمور لم يقع إجراء التحقيق في شأنها" وبذلك فإنّ صلاحياتها الواسعة تجعل منها رقيبا على صحة الإجراءات وباحثا في الأصل كما يمكن أن تتعهد دائرة الإتهام بموجب طعن أي طرف في القضية سواء كان المظنون فيه أو القائم بالحق الشخصي أو النيابة العمومية فتصبح محكمة إستئناف لقرارات قاضي التحقيق وبمجرد تعهدها تكون صلاحياتها واسعة سواء لتدارك الأخطاء التي وقع فيها المحقق أو لتحوير نص الإحالة أو غيرها. فدائرة الإتهام بموجب ما تتمتع به من حقّ الرقابة على صحة الإجراءات وسلامة تطبيق القانون من طرف قاضي التحقيق وحقّ في التعديل تبقى الجهة الوحيدة المخولة لإبطال كل أو بعض أعماله على أنها ملزمة بتحديد نطاق مرماه كيفما يقتضيه الفصل 199 من مجلة الإجراءات الجزائية بفقرته الأخيرة ، إذ يمكن أن يطال أي عمل من أعمال التحقيق أو قرار الختم وبذلك تكون هذه الدائرة هي الوحيدة المخول لها إبطال الأعمال مع إمكانية تعهيد قاضي التحقيق بإعادة النظر وتدارك أخطائه بعد تصحيحها وهي بموجب ذاك التعهد تكتسب مطلق الحرية غايتها جمع كلّ العناصر اللازمة لجعل القضية جاهزة وبناء عليه فهي " تتأمل من كلّ الأدلة والقرائن المتوفرة بالملف وفحص جميع الدفوعات التي يتمسك بها كلّ طرف خصوصا ما كان منها جوهريا والرد عليها بتعليل قانوني ويحدث أن تقرر دائرة الإتهام إبطال قرار إجراء البحث وما إنبنى عليه من أبحاث وبإرجاع ملف القضية إلى المحقق لإعادة البحث في القضية إقتصر على صياغة قرار ختم الأبحاث وأيدته دائرة الإتهام وقررت الإحالة على الدائرة الجنائية الإبتدائية لكن الوكيل العام طعن فيه بالتعقيب قولا وأن قاضي التحقيق لم يتقيد بقرار دائرة الإتهام ولم يعد الأبحاث فقررت محكمة التعقيب نقض القرار قولا وأن دائرة الإتهام قد سبق لها أن أبطلت أعمال قاضي التحقيق بداية من قرار إجراء البحث وتبعا لذلك لا يمكن لهذا الأخير الرجوع إلى ما سبق إبطاله أو إعتماد أي عنصر منه بناء على أن ما سبق إبطاله لا يعتبر عنصرا من عناصر الملف وكان على دائرة الإتهام ممارسة صلاحياتها وتدارك الأخطاء الإجرائية التي وقع فيها المحقق المبحث الثاني : مؤاثرة الأصل على الشكل
رجوعا لأحكام الفصل 199 من مجلة الإجراءات الجزائية يتضح أن المشرّع قد حدّد ظاهريا الشروط الواجب توفرها للتصريح بالبطلان وقد جارت محكمة التعقيب هذا النص وتوسعت في مفاهيمه في المراحل الأخيرة فإنّ المشرّع أخذ بإمكانية تصحيح الإجراءات وتجاوز المبطلات (الفقرة الأولى) كما إعتبرت محكمة التعقيب تطهير الإجراءات لتجاوز البطلان ( الفقرة الثانية ) زيادة على إمكانية التنازل عن المبطل وعدم إثارته (الفقرة الثالثة) مما يدعو للقول بأن التشريع التونسي ومن بعده فقه القضاء يغلبان النتيجة على الشكل حرصا منهما على عدم تعطيل مسار القضاء( الفقرة الرابعة ).
الفقرة الأولى تصحيح الإجراءات
تضمن الفصل 156 من قانون المرافعات الجنائية أنه إذا تبيّن لمحكمة الوزارة أن الحكم المحال عليها باطل فإنها تصحح ذلك وتنظر في الأصل وذاك ما كان معتمدا وأكّدته محكمة التعقيب بشيء من التوسع على أنّ المشرّع قد إشترط في المرحلة الأولى تعلّق موضوع القضية بمخالفة أو بجنحة وذاك مبرّر بعدم جواز التقاضي على درجتين في المادة الجزائية ،وبصدور مجلة الإجراءات الجزائية الحالية توسّع المشرّع في مفهوم تجاوز الإخلالات وأورد الفصل 218 الآتي نصه " إذا كان الحكم المستأنف صادرا في الأصل ورأت محكمة الإستئناف أنّ هناك بطلانا في الإجراءات فإنها تصحح ذلك البطلان وتحكم في الأصل. وإذا كان الحكم قابلا للإبطال فإنّ محكمة الإستئناف تتعهد بالأصل وتبت فيه " كما إعتمد في الفصل الموالي إمكانية التصحيح عند تقرير محكمة الدرجة الأولى خروج القضية عن أنظارها وتراءى لمحكمة الإستئناف خلاف ذلك إذ يمكنها نقض الحكم المطعون فيه والتعهد بالأصل والبت فيه
وبالتمعن في الفصلين السابقين يتضح توجه المشرّع نحو عدم تخويل محكمة الإستئناف الإقتصار على التصريح ببطلان الحكم أو الإجراءات وعند الإقتضاء إرجاع ملف القضية إلى محكمة الدرجة الأولى لإعادة النظرفيها ، فهي محكمة أعلى درجة ويمكنها – بموجب ما خوّله لها القانون – أن تتجاوز الإخلال أو المبطل بناء على سلطتها في المراجعة والتصحيح وإعادة النظر في القضية .
ومن بين الحالات الممكن فيها لمحكمة الإستئناف تجاوز المبطل وتداركه ما يمكن أن يطال الحكم ذاته إذ أنّ النسخة المضافة للملف غير مستوفاة لمقوماتها الشكلية مثل عدم إمضائها من طرف القضاة الذين أصدوا الحكمولا يمكن للسان الدفاع التمسك بذلك لدى محكمة الدرجة الثانية إذ بموجب المفعول الإنتقالي والتطهيري ، وتطبيقا للفصل 218 من مجلة الإجراءات الجزائية يمكن تجاوز المبطل . كما يمكن أن يتبيّن لمحكمة الإستئناف أنّ بعض الإجراءات باطلة وفي هذه الصورة فإنها تعاين ذلك البطلان وتصحّحه دون حاجة لإرجاع القضية إلى محكمة الدرجة الأولى وأكدت محكمة التعقيب ذلك قولا وأن " محكمة الإستئناف من حقها بموجب الفصل 218 من م إج تجاوز الإخلالات الشكلية الواردة صلب محضر الإحتفاظ ومواصلة النظر في القضية"ولا موجب عندئذ للتمسك بهذا المطعن لدى التعقيب على أساس مخالفة أحكام الفصل 199 من مجلة الإجراءات الجزائية لكنّ الفصل 218 لا يمكن إعتماده إلا من طرف محكمة الدرجة الثانية ولا يخوّل للنيابة العمومية على أساسه إعادة نشر قضية جنائية في الطور الإبتدائي حتى في صورة بطلان ذلك الحكم " ضرورة وأن الفصل 218 من م إج إقتضى صراحة أن محكمة الدرجة الثانية هي التي يجوز لها تصحيح البطلان والبت في الأصل " وتبقى صورة أخيرة أوردها الفصل 219 من مجلة الإجراءات الجزائية وهي إمكانية تعهد محكمة الإستئناف بالأصل والبت فيه إذا ما وقع الطعن أمامها في حكم إبتدائي صرّح بعدم الإختصاص وتراءى لها خلاف ذلك ، وهذا النص ولئن كان يطرح في الواقع إشكالية الحرمان من درجة من درجات التقاضي فإنه يسهّل عمل المحاكم ويتجنب طول نشر القضايا وقد تمّ إعتماد هذا التوجه رغم أن مجلة المرافعات الجنائية لم تتضمن فصلا مضاهيا للفصل 219 الحالي هذا ، ومما يلفت الإنتباه أنّ الفصل 218 من مجلة الإجراءات الجزائية يبقى لدى البعض نسيا منسيا ، إذ يحدث أن يقع الطعن في قرار جنائي ويقع التمسك بوجوب الرجوع بالإجراءات إلى مراحلها الأولى من باحث إبتدائي فباحث منتدب وتحقيق فدائرة الإتهام بمقولة وأنّ المحكمة قد هضمت حقوق الدفاع وآنتهكت مصلحة المتهم الشرعية " فطالما أن المحكمة قد تولت توجيه التهمة إلى الطاعن بمحضر محاميه وبحضور المتضررة وبقية المتهمين وآستنطقته من أجلها طبق القانون خاصة وقد وقعت إحالته عليها من طرف دائرة الإتهام بحالة فرار لتحصنه بذلك فإنها ليست ملزمة بآستنطاقه من طرف باحث البداية أو الباحث المناب أو قلم التحقيق بل إنه بإمكانه إستنطاقه بواسطة أحد مستشاريها خاصة وقد تعذر إستنطاقه من طرف الباحث أو قلم التحقيق كان نتيجة تحصنه بالفرار وبذلك لا يمكنه الآن التمسك بهضم حقوق الدفاع والمس من مصلحة المتهم الشرعية ". أمّا التوجه التصحيحي للإجراءات فهو يتمثل في ما يعرف بتطهير الإجراءات بموجب قرار دائرة الإتهام .
الفقرة الثانية تطهير الإجراءات
" إن أعمال دائرة الإتهام تطهر الإخلالات متى تواجدت وتصحح ما كان معتلا كما أن تسخير محام لكل متهم لأول مرة أمام الدائرة الجنائية الإستئنافية يصحح الإجراءات وإنه إذا صدر حكم إستئنافي في الأصل ورأت محكمة الإستئناف أن هناك بطلانا في الإجراءات فإنها تصحح ذلك البطلان وتبت في الأصل" وهذا القرار يكتسي أهمية كبرى سواء من حيث تعرّضه للمفعول التطهيري لقرار دائرة الإتهام أو كذلك لإعماله أحكام الفصل 218 من مجلة الإجراءات الجزائية . ولئن يذهب البعض إلى إعتبار تطهير الإجراءات من مساوئ الأعمال فإنّ بلوغ القضية طورا متقدما مع ما يترتب عليه من وقت يمكن أن يحول دون إمكانية " تحقيق العدالة " مما يجعل الأخذ بهذا التوجه لصالح العدالة وتجنب ضياع الوقت ووسائل الإثبات وتعهد دائرة الإتهام بالقضية وإتخاذها قرارا في الأصل رغم وجود مبطلات على مستوى التحقيق من شأنه أن يجبّ تلك الأوجه ولا يمكن الرجوع بالقضية إلى مرحلة البحث أو المطالبة بوجوب الرجوع بالإجراءات ومطالبة قاضي التحقيق بآتخاذ قرار ختم جديد يراعي فيه مقتضيات القانون إذ العبرة بالقرار النهائي الذي يصدر عن دائرة الإتهام وبموجبه تتعهد الدائرة الجنائية . فالمحكمة المحالة عليها القضية بموجب قرار من دائرة الإتهام ليس لها حقّ الرقابة والتأكد من سلامة الإجراءات على مستوى قرار الإحالة وإن وجد إخلال وجب عليها إعمال أحكام الفصل 218 من مجلة الإجراءات الجزائية بناء على أنها ليست محكمة عليا من حقها مراقبة وتعديل قرار دائرة الإتهام إلاّ ما تعلّق بالوصف القانوني للأفعال إذ تتعهد بالأفعال لا بالوصف القانوني ، إذ أنّ عدم الطعن في قرار دائرة الإتهام في الأجل القانوني يكسبه قوة ما إتصل به القضاء، ويتّضح أنّ قرار دائرة الإتهام بآرتقائه لصفّ الأحكام وإتصال القضاء به يجعله محمولا على الصحة ومطابقة القانون ومستوفى لشكله القانوني وصيرورة القرار باتا لعدم الطعن فيه يجعل كلّ ما تسرب إليه من إخلال إجرائي غير قابل للمراجعة أو التعديل لذلك تعتبر الإجراءات السابقة مطهرة ولا يجوز الرجوع إليها للتمسك ببطلانها . ومن بين صور التطهير الإجرائي إقتصار قاضي التحقيق المحالة عليه القضية بموجب التخلي من زميله لعدم الإختصاص الترابي ،على تلقي تصريحات المتضررة وتحرير قرار ختم البحث وتولت دائرة الإتهام إثر ذلك إحالة القضية على الدائرة الجنائية الإبتدائية التي أصدرت حكمها في القضية لكن لسان الدفاع تمسك أمام محكمة الإستئناف ببطلان الإجراءات فردت هذه الأخيرة بعدم جواز ذلك لوقوع تطهير الإجراءات بموجب قرار دائرة الإتهام وتمسك لسان الدفاع بذلك بمناسبة الطعن بالتعقيب فأيدت محكمة القانون هذا التوجه قولا وأنّ قرار دائرة الإتهام قد طهّر الإجراءات وتعهدت محكمة الموضوع بالأصل وتولت إستنطاق المتهم . وإلى جانب إعمال الفصل 218 من مجلة الإجراءات الجزائية أو تطهير الإجراءات فإنّ إستبعاد المبطلات الإجرائية يمكن أن يكون مترتبا عن تنازل من له حق إثارته.
الفقرة الثالثة التنازل عن طلب البطلان
يعتبر التنازل موجبا لإستبعاد المبطلات إذا ما تعلق الأمر بحقوق خاصة ، أو إجراء غير جوهري ومن ذلك أنّ الفصل 80 من قانون المرافعات الجنائية والفصل 66 من مجلة الإجراءات الجزائية الحالية يتضمنان تعيين مترجم إذا كان حاكم التحقيق والشاهد وذو الشبهة لا يتكلمون بلغة واحدة لكن إنتداب مترجم ليس موجبا لبطلان محضر السماع إذا " لم يتمسك به من جعل لمصلحته وبشرط عدم المصادقة عليه ضمنيا " وعدم التمسك بمخالفة نصّ إجرائي في إبانه لا يترتب عليه البطلان إذ لا يجوز التمسك مثلا بعدم تحليف الشاهد لأول مرة لدى التعقيب رغم أن الفصل 61 من مجلة الإجراءات الجزائية واضح وكان من الواجب التمسك بذلك أمام دائرة الإتهام بوصفها محكمة تحقيق من الدرجة الثانية أو عدم القدح في الشهود أمام محكمة الموضوع كما أنّ عدم إبداء " الخصم أي قادح في البينة التي عرضها عليه خصمه قبل تلقي تصريحاته يزول به حقه في إثارة القوادح بعد سماع الشهادة"فهو بذلك معتبر قد تنازل عن حقه في القدح في الشهود ولا يمكنه لاحقا إثارة ذلك كمطعن لدى التعقيب. ومن صور التنازل عن المبطل أن يذعن الطرف للإجراء المعتبر باطلا ، فذو الشبهة يستدعى من طرف قاضي التحقيق " بطريق الكتابة وفقا للفصل 68 من م إج وله إستدعاؤه بالهاتف متى إقتضت ظروف القضية ذلك ومحاولة إبطال الإستدعاء لهذا السبب غير مجد" وتمسك لسان الدفاع أمام محكمة التعقيب بما لم تقع إثارته لدى محكمة الموضوع غير جائز مثل " عدم إثارة المتهم لمسألة تعقيبه لقرار دائرة الإتهام أمام محكمة الموضوع ما يعدّ دليلا على تخليه عن طعنه في ذلك القرار" أوتنازل المتهم صراحة عن حضور محاميه عند الإستنطاق لدى التحقيق وخاتمة القول أنّ التشريع التونسي – ولئن أخذ بمبطل قانوني وحيد صلب الفصل 119 من مجلة الإجراءات الجزائية – وأساسا بالمبطلات الجوهرية التي يضطلع فيها القضاء بدور هام وخطير فإنّ منحاه إعتماد تصحيح الإجراءات رغم تناسي أو تجاهل العديد مقتضيات الفصل 218 من المجلة ، فالمشرّع يؤاثر الأصل أو النتيجة على الشكل وذاك ما كرسته محكمة التعقيب في خصوص التفتيش والتوصل لضبط المسروق رغم عدم مشروعية الإجراء أو وجوب عرض المحجوز أو إحضاره بالجلسة . ومؤاثرة النتيجة أو الأصل على الشكل ولئن خلق نوعا من قلة التوازن بين مصلحة المتهم وحقوق المجتمع في توقيع العقاب فإنّ الغاية منها تجنب الإفلات من العقاب لمجرد إخلال إجرائي يصعب أحيانا تداركه وإهدار الطاقات والوقت ، لكنّ ما يلاحظ في مرحلة أولى وخلال الخمسين سنة المنقضية أن القرارات كانت تتسم بالوضوح ومحاولة تحديد العنصر المعتمد من محكمة التعقيب والمستمدّ من الفصل 199 من مجلة الإجراءات الجزائية تلتها مرحلة ثانية جمعت بين جملة هذه العناصر وأعطتها أحيانا مفهوما مزدوجا ، فهل كان ذلك ناتجا عن الرغبة في إعطاء الأحكام أكثر شفافية وأحقية لمصلحة المتهم الشرعية أم هو نتيجة تداخل المفاهيم أم تأثر بمفاهيم جديدة تطغى على السياسة الجزائية مثل مفهوم المحاكمة العادلة أو تكريس حقوق الإنسان في مختلف تجلياتها.
خمسون سنة من فقه قضاء محكمة التعقيب في المادة الجزائية وتناول موضوع خطير ومترامي الأطراف كيفما هو الحال بالنسبة للمبطلات الإجرائية ، لا يمكن أن تسعه مداخلة في هذا الملتقى العلمي ، لكنّ ما يمكن الإنتهاء إليه – رغم ما يمكن أن يثار من نقاش- أن فقه القضاء كان طوال هذه المدة ناجزا ووراء تعديل بعض النصوص بما يخدم مصلحة القضاء والمتقاضين وللتذكير فحسب فإن محكمة التعقيب كانت وراء بروز مفهوم العقوبة المبررة التي أخذ بها المشرع ضمن الفصل 271 من مجلة الإجراءات الجزائية وكذلك وراء إضافة الفصل 132 مكرر من نفس المجلة .
ولا يسعني في ختام هذا إلا القول بأنّ هذه المداخلة تركزت أساسا على بعض القرارات التعقيبية لكنها لم تخرج عنها للخوض في نظريات وآراء ما كانت لتكون لولا فقه القضاء وما يثيره من إشكاليات وما يحدده من مفاهيم.
سقت هذا بعيدا عن كلّ تطويل ممل أو إختصار مخلّ سعيا وراء التعريف بفقه القضاء في مادة المبطلات وأسأل الله حسن التوفيق.
جندوبة في 25 نوفمبر 2010
مصطفى بن جعفـر
رئيس دائرة بمحكمة التعقيب
- تع ج 19437 في 25/2/2010 عن الدوائر المجتمعة غير منشور" حيث إنّ قبول الإعتراض من الناحية الشكلية يخضع لأجل عادي وهو أجل العشرة أيام الموالية لتاريخ الإعلام الواقع للمحكوم عليه شخصيا ما لم يتبيّن من أعمال التنفيذ أنه بلغه العلم به و يخضع في غير ذلك من الصور للأجل الإستثنائي وهو إنقضاء أجل سقوط العقاب وتبعا لذلك فإنّ عدم إنقضاء أجل سقوط العقاب هو شرط قبول الإعتراض شكلا كيفما نص على ذلك الفصل 176 من م إ ج. وحيث إن المحكمة ملزمة بمعاينة السقوط لترتيب الآثار القانونية عليه وفي صورة عدم وقوفها على آجاله وشروطه فإنها تقرر قبول الإعتراض شكلا وبموجبه ينحلّ الحكم ويلغى بالنسبة لجميع الأوجه المعترض في شأنها سواء كانت صبغتها مدنية أو جزائية ويعاد الحكم في القضية كيفما أوجبه الفصل 182 من م إج .
وحيث إن صدور الحكم الغيابي يقطع مدة إنقضاء الدعوى العمومية ووجب الر جوع إلى تاريخ صدوره لإحتساب أجلها إذ أن القطع يترتب عليه تجدد الأجل من تاريخ آخر عمل
وحيث إن المحكمة قضت بعدم سماع الدعوى لإنقراض الدعوى العمومية بمرور الزمن ووجب تبني النتيجة التي آلت إليها القضية مع تعديل منطوق حكمها وذلك بالإكتفاء بالتصريح بآنقراض الدعوى العمومية بمرور الزمن إذ أن الحكم بعدم سماع الدعوى أو البراءة يقتضي الخوض في التهمة وعدم نسبتها للمحكوم عليه أو عدم توفر أركانها في حين وأن الجريمة لم تكن في حد ذاتها محل نظر نفيا أو إثباتا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق